31 Mar

احمد بزون

يجهد الفنان زوهراب في كل معرض جديد له ألا يكرر نفسه، في الوقت الذي يتواصل فيه مع مواضيعه وأسلوبه وتقنيته وتوجهاته الفنية. إذ قد يظهر للمُشاهد أن بعض اللوحات تشبه سابقاتها، لأن الفنان يعرض لوحات جديدة وأخرى من سنوات سابقة لم يعرضها من قبل، ما يشعرنا بأن بعض اللوحات قد مرّ عليها نظرنا من قبل. ففي معرضه الجديد لا يفارق زوهراب نتاجه المعروف عموماً، بل لا يهجر شخصيته الفنية التي اعتدناها، وإن غيّر القصص والأساطير التي يدخلها إلى لوحته، أو غيّر في التكوين والتأليف، في الوقت الذي يحافظ فيه على أساليبه المختلفة.
في المعرض الجديد «الحب» الذي يقيمه زوهراب في صالة سيميز، (هوليداي بيتش، نهر الكلب، لغاية 29 الجاري)، لا يستغرق في قديمه، بل يتسع المعرض لعدد من اللوحات التي يجدد فيها الفنان دمه، من خلال عرض لوحات يهتم فيها بالتغيير كما يهتم بإظهار ابتعاد نتاجه عن التنميط والأسلبة، كأن يذهب إلى تعبيرية جديدة، وإن كانت تتابع الجمع بين واقعية الصورة وشعريتها. ولعل تقديمه عدداً من لوحات الأكريليك الجديدة، مثلاً، أظهر منحى مختلفاً، بل أسلوباً مغايراً لأسلوب اللوحات الزيتية. على أن هذه الانعطافة في لوحات الأكريليك بدت عامة في أعمال المعرض، إذ من ينظر إلى تشكيلة اللوحات المعروضة ينتبه كيف تأخذ التقنية اللونية، أو المادة، الفنان في اتجاه مغاير، فنستطيع بالتالي فرز لوحات المعرض الاثنتين والسبعين تبعاً للمواد المستخدمة، فلوحات الزيت عموماً كبيرة وجدارية ومسكونة بنفس ملحمي أحياناً، وهي لوحات واقعية وأسطورية في آن، تتخذ من قصص الخلق والوجود والتراث الأسطوري الأرمني والعالمي مادة لها، في حين تميل لوحات الغواش إلى التجريد والإيقاع الموسيقى والأشكال النباتية التي تهتم بالزخرفة البصرية، أما لوحات الباستيل فتتعهد الدمج بين النباتي والإنساني، لكنها تتوسط الصورية والتجريد فتقع في المنطقة الوسطى بينهما، وعندما نصل إلى الحبر الصيني والفحم مثلاً تصغر اللوحة وتتحول إلى مجرد اختصارات خطية، تبرز مهارة الفنان في اختزال الأشكال، في الوقت الذي يذهب فيه مع الواقعية حتى التفاصيل البسيطة.
مهارة
هذا توصيف عام، لا يغنينا عن الكلام على المهارة الطاغية، التي تجعلنا نتوقف عند السؤال عن هذه المروحة الواسعة من المواد اللونية المستخدمة في المعرض؟ فكأننا أمام حالة استعراض مهارة، أو قدرة أكثر من تخصصية، أو خبرة لا تقل عن أربعين سنة من الاحتراف الفني. قد نحسب ذلك عملاً استعراضياً، فهيصته المهرجانية كان يمكن أن تسطع أكثر لو كانت الصالة أكثر اتساعاً، خصوصاً أن عدداً لا بأس به من اللوحات الكبيرة كان يستحق فسحة أكبر، لكن، في أي حال، لم يبدُ الاستعراض سلبياً وفارغاً، بل أظهر قدرات الفنان ومراسه ونجاحه في تطويع المادة اللونية، أو الانقياد معها ومطاوعتها أحياناً، لكن بإرادة وحيلة وسلطة.
لا يترك زوهراب لنا مجالاً للشك في قوة صِيَغِهِ اللونية وحنكة خطوطه، فهو لا يعلق في مزاج لوني واحد، بل ينوع المناخ اللوني، بحيث نشعر كأن للألوان فصولها، أو كأنه يصور فصول الألوان، فمرة تطغى الألوان الحامية الصيفية، ومرة أخرى الأخضر الربيعي… وهكذا تتداخل في لوحته اللونية الانطباعية والتعبيرية في آن، لكنه يبقى في استخداماته اللونية محافظاً على توازن اللوحة التقليدي، فهو يحرص على ألا يدخل في مخاطرات أو مغامرات غير محسوبة. ومهما تنوعت أساليبه يبقَ مهتماً بأن يبقى التوازن عنواناً، فخيط يشده إلى الأصول والقواعد الفنية الصارمة، وخيط آخر يشده إلى التمرد والانسياق إلى المزاج الفني القلق.
لغز دافينشي
لا نريد أن نعيد هنا ما كتبناه عن معارضه السابقة، لجهة الرموز التي يستخدمها، أو القصص التي يسعى لإظهارها، أو إخلاصه للتراث الثقافي الأرمني، أو حتى تلك البراءة التي يتمتع بها شخوصه، حتى وإن كانوا عراة، ولا حتى عن روحانية لوحته، بل نميل هنا إلى ما يمكن أن يقال عن تكثيف لوحته، خصوصاً الزيتية، التكثيف الذي يستغل بمفرداته المحتشدة كل مساحة اللوحة، بل أكثر من ذلك، فالفنان يقدم لنا أكثر من سطح أو مستوى في اللوحة الواحدة، فالشفافية التي يقدمها تسمح بظهور مستوى أول، وثان، وأحياناً ثالث، ما يفسح في المجال له إعطاء سمة أو خصوصية لكل سطح، على أن الزمن هو العنوان الأساسي هنا، أو تعاقب الأجيال، أو توالي الأحداث، وهو كثيراً ما يقدم لوحة تسرد حدثاً، أو تعود إلى التاريخ، أو تقود إلى حكمة. ونحن نعرف علاقته في الأساس باللوحة الكنسية التي تتضمن تلك التوجهات.
من هنا يبدو الدأب الشديد لدى الفنان في تطريز لوحته ونسجها بتأنٍّ وجَلَد، من دون إهمال للتفاصيل البسيطة، حتى تلك التي تدخل في أكسسوار الحدث أو كماليات المشهد، بل قد يضيف إلى المشهد أحياناً مادة بعيدة عن واقعه، مادة متخيلة، كأن نرى وجهاً مكللاً بالزهور والفواكه والأجساد البشرية، أو نرى وجهاً مخترقاً بالطبيعة. فواقعيته الصارمة تجتمع دائماً مع أحلامه، قد تتوازى أو تتداخل أو تتعاقب لا فرق.
زوهراب سليل نهر الأحزان الأرمني، لا يستطيع أن ينجو من فصول اللعب بالألوان ومتعة أن يصنع منها أشكالاً يلبسها وتلبسه في آن، لذا تبتسم له اللوحة، تبتسم نساؤها، ورجالها، وأطفالها الأبرياء من أحزانه تلك، فتختلط المشاعر حتى لا يستطيع الفنان نفسه حسم أن يمسح الحزن عن وجه عروس تبتسم لمناسبة زفافها، ولا نستطيع نحن أن نفصل بسهولة ملامح الحزن عن ملامح الفرح في الوجوه التي نستعرضها، كون الضدان يلتقيان عند الحد الفاصل بينهما، لتشكل لغزاً يذكر بلغز دافينشي في الموناليزا.